كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة.
فائدة:
الرحمن أخص من الرحيم ولذلك لا يسمى به غير الله عز وجل والرحيم قد يطلق على غيره فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله تعلى الجاري مجرى العلم وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا ولذلك جمع الله عز وجل بينهما فقال: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} 17 سورة الإسراء / الآية 110 فيلزم من هذا الوجه ومن حيث منعنا الترادف في الأسماء المحصاة أن يفرق بين معنى الاسمين فبالحري أن يكون المفهوم من الرحمن نوعا من الرحمة هي أبعد من مقدروات العباد وهي ما يتعلق بالسعادة الأخروية فالرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولا وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا وبالإسعاد في الآخرة ثالثا والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا.
تنبيه:
حظ العبد من اسم الرحمن أن يرحم عباد الله الغافلين فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله عز وجل بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزراء وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه رحمة لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله ويستحق البعد من جواره وحظه من اسم الرحيم أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو جاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته سؤال وجوابه.
لعلك تقول ما معنى كونه تعالى رحيما وكونه أرحم الراحمين والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذبا ومريضا وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية ودفع كل فقر وغمة وإماطة كل مرض وإزالة كل ضرر والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا وهو قادر على إزالة جميعها وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن.
فجوابك إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا.
والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع السلامة التي هي خير محض ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته فهما داخلان تحت الإرادة ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره والمراد لذاته قبل المراد لغيره ولأجله قال الله عز وجل سبقت رحمتي غضبي فغضبه إرادته للشر والشر بإرادته ورحمته إرادته للخير والخير بإرادته ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته ولكن لما في ضمنه من الخير فالخير مقضي بالذات والشر مقضي بالعرض وكل بقدر وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلا.
فالآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى تحته خيرا أو خطر لك أنه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا لا في ضمن الشر فاتهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين.
أما في قولك إن هذا الشر لا خير تحته فإن هذا مما تقصر العقول عن معرفته ولعلك فيه مثل الصبي الذي يرى الحجامة شرا محضا أو مثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول لأنه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي للغير أن يهمله أو اتهم عقلك في الخاطر الثاني وهو قولك إن تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشر ممكن فإن هذا أيضا دقيق غامض فليس كل محال وممكن مما يدرك إمكانه واستحالته بالبديهة ولا بالنظر القريب بل ربما عرف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الأكثرون.
فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في أنه أرحم الراحمين وفي أنه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق لاسم الرحمة وتحت هذا الغطاء سر منع الشرع عن إفشائه فاقنع بالإيماء ولا تطمع في الإفشاء ولقد نبهت بالرمز والإيماء إن كنت من أهله فتأمل.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي

هذا حكم الأكثرين وأما أنت أيها الأخ المقصود بالشرح فلا أظنك إلا مستبصرا بسر الله عز وجل في القدر مستغنيا عن هذه التحويمات والتنبيهات.
الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود بل لا يستغني عنه شيء في شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في وجوده ولا في بقائه بل كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه فكل شيء سواه هو له مملوك في ذاته وصفاته وهو مستغن عن كل شيء فهذا هو الملك مطلقا تنبيه العبد لا يتصور أن يكون ملكا مطلقا فإنه لا يستغني عن كل شيء فإنه أبدا فقير إلى الله تعالى وإن استغنى عمن سواه ولا يتصور أن يحتاج إليه كل شيء بل يستغني عنه أكثر الموجودات ولكن لما تصور أن يستغني عن بعض الأشياء ولا يستغني عنه بعض الأشياء كان له شوب من الملك.
فالملك من العباد هو الذي لا يملكه إلا الله تعالى بل يستغني عن كل شيء سوى الله عز وجل وهو مع ذلك يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياه وإنما مملكته الخاصة به قلبه وقالبه وجنده شهوته وغضبه وهواه ورعيته لسانه وعيناه ويداه وسائر أعضائه فإذا ملكها ولم تملكه وأطاعته ولم يطعها فقد نال درجة الملك في عالمه فإن انضم إليه استغناؤه عن كل الناس واحتاج الناس كلهم إليه في حياتهم العاجلة والآجلة فهو الملك في عالم الأرض.
وتلك رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنهم استغنوا في الهداية إلى الحياة الآخرة عن كل أحد إلا عن الله عز وجل واحتاج إليهم كل أحد ويليهم في هذا الملك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وإنما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد وبهذه الصفات يقرب العبد من الملائكة في الصفات ويتقرب إلى الله تعالى بها وهذا الملك عطية للعبد من الملك الحق الذي لا مثنوية في ملكه.
ولقد صدق بعض العارفين لما قال له بعض الأمراء سلني حاجتك حيث قال أوتقول لي هذا ولي عبدان هما سيداك فقال ومن هما قال الحرص والهوى فقد غلبتهما وغلباك وملكتهما وملكاك وقال بعضهم لبعض الشيوخ أوصني فقال له كن ملكا في الدنيا تكن ملكا في الآخرة قال وكيف أفعل ذلك فقال ازهد في الدنيا تكن ملكا في الآخرة معناه اقطع حاجتك وشهوتك عن الدنيا فإن الملك في الحرية والاستغناء.
القدوس هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضي به تفكير ولست أقول منزه عن العيوب والنقائص فإن ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب فليس من الأدب أن يقول القائل ملك البلد ليس بحائك ولاحجام فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص.
بل أقول القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كمالا في حقه لأن الخلق أولا نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال ولكنه في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني وقالوا إن هذه هي أسماء الكمال وإلى ما هو نقص في حقهم مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم فوضعوا بإزاء هذه المعاني هذه الألفاظ.
ثم كان غايتهم في الثناء على الله تعالى ووصفه أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام وأن نفوا عنه ما هو أوصاف نقصهم والله سبحانه وتعالى منزه عن أوصاف كمالهم كما أنه منزه عن أوصاف نقصهم بل كل صفة تتصور للخلق فهو منزه ومقدس عنها وعما يشبهها ويماثلها ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يجز إطلاق أكثرها وقد فهمت معنى هذا في الفصل الرابع من فصول المقدمات فلا حاجة إلى الإعادة.
تنبيه:
قدس العبد في أن ينزه إرادته وعلمه أما علمه فينزهه عن المتخيلات والمحسوسات والموهومات وكل ما يشاركه فيه البهائم من الإدراكات بل يكون تردد نظره وتطواف علمه حول الأمور الأزلية الإلهية المنزهة عن أن تقرب فتدرك بالحس أو تبعد فتغيب عن الحس بل يصير متجردا في نفسه عن المحسوسات والمتخيلات كلها ويقتني من العلوم ما لو سلب آلة حسه وتخيله بقي ريانا بالعلوم الشريفة الكلية الإلهية المتعلقة بالمعلومات الأزلية الأبدية دون الشخصيات المتغيرة المستحيلة.
وأما إرادته فينزهها عن أن تدور حول الحظوظ البشرية التي ترجع إلى لذة الشهوة والغضب ومتعة المطعم والمشرب والمنكح والملبس والملمس والمنظر وما لا يصل إليه من اللذات إلا بواسطة الحس والقلب بل لا يريد إلا الله عز وجل ولا يبقى له حظ إلا فيه ولا يكون له شوق إلا إلى لقائه ولا فرح إلا بالقرب منه ولو عرضت عليه الجنة وما فيها من النعيم لم تلتفت همته إليها ولم يقنع من الدار إلا برب الدار.
وعلى الجملة الإدراكات الحسية والخيالية تشارك البهائم فيها فينبغي أن يترقى عنها إلى ما هو من خواص الإنسانية والحظوظ البشرية الشهوانية يزاحم البهائم أيضا فيها فينبغي أن يتنزه عنها فجلالة المريد على قدر جلالة مراده.
ومن همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه ومن لم يكن له همة سوى الله عز وجل فدرجته على قدر همته ومن رقى علمه عن درجة المتخيلات والمحسوسات وقدس إرادته عن مقتضى الشهوات فقد نزل بحبوحة حظيرة القدس.
السلام هو الذي تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر حتى إذا كان كذلك لم يكن في الوجود سلامة إلا وكانت معزية إليه صادرة منه وقد فهمت أن أفعاله تعالى سالمة عن الشر أعني الشر المطلق المراد لذاته لا لخير حاصل في ضمنه أعظم منه وليس في الوجود شر بهذه الصفة كما سبق الإيماء إليه إلا لله سبحانه.
تنبيه:
كل عبد سلم عن الغش والحقد والحسد وإرادة الشر قلبه وسلمت عن الآثام والمحظورات جوارحه وسلم عن الانتكاس والانعكاس صفاته فهو الذي يأتي الله تعالى بقلب سليم وهو السلام من العباد القريب في وصفه من السلام المطلق الحق الذي لا مثنوية في صفته.
وأعني بالانتكاس في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه إذ الحق عكسه وهو أن تكون الشهوة والغضب أسير العقل وطوعه فإذا انعكس فقد انتكس ولا سلامة حيث يصير الأمير مأمورا والملك عبدا ولن يوصف بالسلام والإسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده فكيف يوصف به من لم يسلم هو من نفسه.
المؤمن هو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه وسده طرق المخاوف ولا يتصور أمن وأمان إلا في محل الخوف ولا خوف إلا عند إمكان العدم والنقص والهلاك والمؤمن المطلق هو الذي لا يتصور أمن وأمان إلا ويكون مستفادا من جهته وهو الله سبحانه وتعالى وليس يخفى أن الأعمى يخاف أن يناله هلاك من حيث لا يرى فعينه البصيرة تفيده أمنا منه والأقطع يخاف آفة لا تندفع إلا باليد فاليد السليمة أمان منها وهكذا جميع الحواس والأطراف والمؤمن خالقها ومصورها ومقويها.